فصل: قصة موسى والخضر عليهما السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة

قد ذكرنا نكول بني إسرائيل، عن قتال الجبارين، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة‏.‏ ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين، ولكن فيها‏:‏

أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار، وأن موسى وهرون وخور، جلسوا على رأس أكمة، ورفع موسى عصاه، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك، وجعل هرون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس‏.‏ فانتصر حزب يوشع عليه السلام‏.‏

وعندهم‏:‏ أن يثرون كاهن مدين، وختن موسى عليه السلام، بلغه ما كان من أمر موسى، وكيف أظفره الله بعدوه فرعون، فقدم على موسى مسلماً، ومعه ابنته صفورا زوجة موسى وابناها منه‏:‏ جرشون وعازر، فتلقاه موسى، وأكرمه، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل وعظموه وأجلوه‏.‏

وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالاً أمناء أتقياء أعفاء، يبغضون الرشاء والخيانة، فيجعلهم على الناس رؤوس مئين، ورؤوس خمسين، ورؤوس عشرة، فيقضوا بين الناس، فإذا أشكل عليهم أمر جاؤوك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم‏.‏ ففعل ذلك موسى عليه السلام‏.‏

قالوا‏:‏ ودخل بنو إسرائيل البرية عند سيناء في الشهر الثالث من خروجهم من مصر، وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم، وهي أول فصل الربيع، فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف، والله أعلم‏.‏

قالوا‏:‏ ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء، وصعد موسى الجبل، فكلمه ربه، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم الله به عليهم، من إنجائه إياهم من فرعون وقومه، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته، وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا، ويغتسلوا، ويغسلوا ثيابهم، وليستعدوا إلى اليوم الثالث‏.‏

فإذا كان في اليوم الثالث، فليجتمعوا حول الجبل، ولا يقتربن أحد منهم إليه، فمن دنا منه قتل حتى ولا شيء من البهائم، ما داموا يسمعون صوت القرن، فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه، فسمع بنو إسرائيل ذلك، وأطاعوا، واغتسلوا، وتنظفوا، وتطيبوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 326‏)‏

فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة، وفيها أصوات وبروق، وصوت الصور شديد جداً، ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعاً شديداً، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود من نور، وتزلزل الجبل كله زلزلة شديدة، واستمر صوت الصور وهو البوق، واشتد وموسى عليه السلام فوق الجبل، والله يكلمه ويناجيه‏.‏

وأمر الرب عز وجل موسى أن ينزل فأمر بني إسرائيل أن يقتربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله، ويأمر الأحبار - وهم علمائهم - أن يدنوا فيصعدوا الجبل، ليقدموا بالقرب، وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة‏.‏

فقال موسى‏:‏ يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوه وقد نهيتهم عن ذلك، فأمره الله تعالى أن يذهب، فيأتي معه بأخيه هرون، وليكن الكهنة - وهم العلماء - والشعب - وهم بقية بني إسرائيل غير بعيد - ففعل موسى وكلمه ربه عز وجل، فأمره حينئذ بالعشر كلمات‏.‏

وعندهم‏:‏ أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى، وجعلوا يقولون لموسى‏:‏ بلغنا أنت عن الرب عز وجل، فإنا نخاف أن نموت، فبلغهم عنه، فقال‏:‏ هذه العشر الكلمات، وهي‏:‏

الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الحلف بالله كاذباً، والأمر بالمحافظة على السبت، ومعناه‏:‏ تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة، وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي نسخ الله به السبت‏.‏

أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض الذي يعطيك الله ربك‏.‏

لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور، لا تمد عينك إلى بيت صاحبك، ولا تشته امرأة صاحبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً من الذي لصاحبك، ومعناه النهي عن الحسد‏.‏

وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم‏:‏ مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن وهما‏:‏ قوله تعالى في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 151- 153‏]‏‏.‏

وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة، وأحكاماً متفرقة عزيزة، كانت فزالت، وعملت بها حيناً من الدهر، ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها، ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها وأولوها، ثم بعد ذلك كله سلبوها، فصارت منسوخة مبدلة، بعد ما كانت مشروعة مكملة، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو الذي يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، آلا له الخلق، تبارك الله رب العالمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 327‏)‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 80-82‏]‏‏.‏

يذكر تعالى منته وإحسانه إلى بني إسرائيل، بما أنجاهم من أعدائهم، وخلصهم من الضيق والحرج، وأنه وعدهم صحبة نبيهم، إلى جانب الطور الأيمن، أي‏:‏ منهم، لينزل عليه أحكاماً عظيمة، فيها مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم‏.‏

وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم، في سفرهم في الأرض، التي ليس فيها زرع ولا ضرع، مناً من السماء، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم، فيأخذون منه قدر حاجتهم، في ذلك اليوم إلى مثله من الغد، ومن ادخر منه لأكثر من ذلك فسد، ومن أخذ منه قليلاً كفاه أو كثيراً لم يفضل عنه، فيصنعون منه مثل الخبز، وهو في غاية البياض والحلاوة‏.‏

فإذا كان من آخر النهار، غشيهم طير السلوى، فيقتنصون منه بلا كلفة ما يحتاجون إليه، حسب كفايتهم لعشاهم‏.‏

وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام، وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوءها الباهر، كما قال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40-41‏]‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 49-57‏]‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60-61‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 328‏)‏

فذكر تعالى إنعامه عليهم، وإحسانه إليهم، بما يسر لهم من المن والسلوى، طعامين شهيين بلا كلفة، ولا سعي لهم فيه، بل ينزل الله المن باكراً ويرسل عليهم طير السلوى عشياً، وأنبع الماء لهم بضرب موسى عليه السلام حجراً، كانوا يحملونه معهم بالعصا فتفجر منه اثنتا عشرة عيناً لكل سبط عين منه تنبجس‏.‏ ثم تنفجر ماءاً زلالاً فيستقون ويسقون دولبهم ويدخرون كفايتهم‏.‏

وظلل عليهم الغمام من الحر، وهذه نعم من الله عظيمة، وعطيات جسيمة، فما رعوها حق رعايتها، ولا قاموا بشكرها، وحق عبادتها‏.‏ ثم ضجر كثير منهم منها، وتبرموا بها، وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها، مما تنبت الأرض من بقلها، وقثائها، وفومها، وعدسها، وبصلها، فقرعهم الكليم، ووبخهم، وأنبهم على هذه المقالة، وعنفهم قائلاً‏:‏

{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم، التي فيها حاصل لأهل الأمصار الصغار والكبار، موجود بها، وإذا هبطتم إليها‏.‏

أي‏:‏ ونزلتم عن هذه المرتبة التي لا تصلحون لمنصبها، تجدوا بها ما تشتهون وما ترومون، مما ذكرتم من المآكل الدنية، والأغذية الردة‏.‏ ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك ههنا، ولا أبلغكم ما تعنتم به من المنى، وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 329‏)‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 81‏]‏‏.‏

أي‏:‏ فقد هلك، وحق له والله الهلاك والدمار، وقد حل عليه غضب الملك الجبار، ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد، بالرجاء لمن أناب وتاب، ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏

 سؤال الرؤية

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142-147‏]‏‏.‏

قال جماعة من السلف منهم ابن عباس، ومسروق، ومجاهد‏:‏ الثلاثون ليلة هي‏:‏ شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة، فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه، وأقام حجته وبراهينه‏.‏

والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات، وكان فيه صائماً يقال‏:‏ إنه لم يستطعم الطعام، فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه، فأمر الله أن يمسك عشراً أخرى، فصارت أربعين ليلة‏.‏ ولهذا ثبت في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏أن خلو فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏)‏‏)‏‏.‏

فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هرون، المحبب المبجل الجليل، وهو ابن أمه وأبيه، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه، فوصاه وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ في الوقت الذي أمر بالمجىء فيه ‏{‏وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ أي‏:‏ كمله الله من وراء حجاب، إلا أنه أسمعه الخطاب، فناداه وناجاه وقربه وأدناه، وهذا مقام رفيع، ومعقل منيع، ومنصب شريف، ومنزل منيف، فصلوات الله عليه تترى، وسلامه عليه في الدنيا والأخرى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 330‏)‏

ولما أعطى هذه المنزلة العلية، والمرتبة السنية، وسمع الخطاب، سأل رفع الحجاب، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار، القوى البرهان‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي‏}

ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى، لأن الجبل الذي هو أقوى، وأكبر ذاتاً، وأشد ثباتاً من الإنسان، لا يثبت عند التجلي من الرحمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏}‏‏.‏

وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له‏:‏ يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏حجابه النور‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ ذاك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏}‏ فإنه أكبر منك، وأشد خلقاً‏.‏ فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل، فخر صعقاً‏.‏

وقد ذكرنا في التفسير، ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، وصححه ابن جرير والحاكم، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، زاد ابن جرير، وليث عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً‏}‏ قال‏:‏ هكذا بإصبعه، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل‏.‏ لفظ ابن جرير‏.‏

وقال السدي عن عكرمة، وعن ابن عباس‏:‏ ما تجلى يعني‏:‏ من العظمة إلا قدر الخنصر، فجعل الجبل دكاً، قال‏:‏ تراباً‏.‏

{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً‏}‏ أي‏:‏ مغشياً عليه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ميتاً، والصحيح الأول، لقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ‏}‏ فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي، قال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ‏}‏ تنزيه، وتعظيم، وإجلال إن يراه بعظمته أحد ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ فلست أسأل بعد هذا الرؤية ‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏ أنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 331‏)‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي، أو جوزي بصعقة الطور‏)‏‏)‏‏.‏

لفظ البخاري‏.‏

وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري، حين قال‏:‏ لا والذي اصطفى موسى على البشر، فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تخيروني من بين الأنبياء ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من طريق الزهري، عن أبي سلمة، وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تخيروني على موسى ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر تمامه

وهذا من باب الهضم والتواضع، أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء، على وجه الغضب والعصبية، أو ليس هذا إليكم، بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وليس ينال هذا بمجرد الرأي، بل بالتوقيف‏.‏

ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم، ففي قوله نظر، لأن هذا من رواية أبي سعيد، وأبي هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين، متأخراً فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا، والله اعلم‏.‏

ولا شكَّ أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل البشر بل الخليقة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَاسَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ وما كملوا إلا بشرف نبيهم‏.‏

وثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون، الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون، حتى أولو العزم الأكملون‏:‏ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش‏)‏‏)‏‏.‏ أي‏:‏ آخذاً بها، ‏(‏‏(‏فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور‏)‏‏)‏ دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده، فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال، فيكون أولهم إفاقة، محمد خاتم الأنبياء، ومصطفى رب الأرض والسماء، على سائر الأنبياء‏.‏ فيجد موسى باطشاً بقائمة العرش‏.‏

قال الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أدري أصعق فأفاق قبلي‏)‏‏)‏ أي‏:‏ كانت صعقته خفيقة، لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق، ‏(‏‏(‏أو جوزي بصعقة الطور‏؟‏‏)‏‏)‏ يعني‏:‏ فلم يصعق بالكلية‏.‏

وهذا شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية، ولا يلزم تفضيله بها مطلقاً من كل وجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 332‏)‏

ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة، لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال‏:‏ لا والذي اصطفى موسى على البشر، قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه السلام، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي‏}‏ أي‏:‏ في ذلك الزمان لا ما قبله، لأن إبراهيم الخليل أفضل منه، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم، ولا ما بعده لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل منهما، كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء، وكما ثبت أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏سأقوم مقاماً يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ أي‏:‏ فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام، ولا تسأل زيادة عليه، وكن من الشاكرين على ذلك‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ وكانت الألواح من جوهر نفيس‏.‏ ففي الصحيح‏:‏ أن الله كتب له التوراة بيده، وفيها مواعظ عن الآثام وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام‏.‏

{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ بعزم ونية صادقة قوية‏.‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ أي‏:‏ يضعوها على أحسن وجوهها، وأجمل محاملها‏.‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي، المخالفين لأمري، المكذبين لرسلي‏.‏

{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ‏}‏ عن‏:‏ فهمها وتدبرها وتعقل معناها الذي أريد منها، ودل عليه مقتضاها ‏{‏الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا‏}‏ أي‏:‏ ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق والمعجزات، لا ينقادوا لاتباعها

{‏وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا يسلكوه ولا يتبعوه ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا، وتغافلهم عنها، وإعراضهم عن التصديق بها، والتفكر في معناها، وترك العمل بمقتضاها‏.‏

{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

 قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى كليم الله عنهم

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148-154‏]‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 333‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83-98‏]‏‏.‏

يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل، حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه، فمكث على الطور يناجيه ربه، ويسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة، وهو تعالى يجيبه عنها، فعمد رجل منهم يقال له‏:‏ هرون السامري، فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلاً، وألقى فيه قبضة من التراب، كان أخذها من أثر فرس جبريل حين رآه - يوم أغرق الله فرعون على يديه - فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي‏.‏

ويقال‏:‏ إنه استحال عجلاً جسداً أي‏:‏ لحماً ودماً حياً يخور‏.‏ قاله قتادة وغيره‏.‏

وقيل‏:‏ بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة، فيرقصون حوله ويفرحون‏:‏ ‏{‏فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ‏}‏ أي‏:‏ فنسي موسى ربه عندنا، وذهب يتطلبه وهو ههنا‏!‏ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وتقدست أسماؤه وصفاته، وتضاعفت آلاؤه وعداته‏.‏

قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيواناً بهيماً، وشيطاناً رجيماً‏:‏ ‏{‏ألم يروا أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 334‏)‏

فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جواباً، ولا يملك ضرا ولا نفعا، ولا يهدي إلى رشد، اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم، عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل، والضلال‏.‏

{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ندموا على ما صنعوا‏.‏

{‏وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ولما رجع موسى عليه السلام إليهم، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل، ومعه الألواح المتضمنة التوراة ألقاها فيقال‏:‏ إنه كسرها‏.‏ وهكذا هو عند أهل الكتاب، وإن الله أبدله غيرها، وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين‏.‏

وعند أهل الكتاب‏:‏ أنهما كانا لوحين، وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة، ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل، فأمره بمعاينة ذلك‏.‏

ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن حبان، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ليس الخبر كالمعاينة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح قالوا إنا‏:‏

{‏وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ‏}‏ تحرجوا من تملك حلى آل فرعون، وهم أهل حرب، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم، ولم يتحرجوا بجهلهم، وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد، الذي له خوار مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار‏.‏

ثم أقبل على أخيه هرون عليهما السلام قائلاً له‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ‏}‏ أي‏:‏ هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا، فقال‏:‏ ‏{‏بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي‏}‏ أي‏:‏ تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 151‏]‏‏.‏

وقد كان هرون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي، وزجرهم عنه أتم الزجر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ إنما قدر الله أمر هذا العجل، وجعله يخور فتنة واختباراً لكم، ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏}‏ أي‏:‏ لا هذا‏.‏

‏{‏فَاتَّبِعُونِي‏}‏ أي‏:‏ فيما أقول لكم ‏{‏وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏ يشهد الله لهرون عليه السلام ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏ أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك، فلم يطيعوه ولم يتبعوه، ثم أقبل موسى على السامري‏:‏ ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ‏}‏ أي‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ ‏{‏قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ رأيت جبرائيل وهو راكب فرساً ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ‏}‏ أي‏:‏ من أثر فرس جبريل‏.‏

وقد ذكر بعضهم أنه رآه، وكلما وطئت بحوافرها على موضع اخضر وأعشب، فأخذ من أثر حافرها، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب، كان من أمره ما كان ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 335‏)‏

وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحداً، معاقبة له على مسه، مالم يكن له مسه‏.‏ هذا معاقبة له في الدنيا ثم توعده في الأخرى فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ‏}‏ وقرىء‏:‏ لن نخُلفه‏.‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً‏}‏ قال‏:‏ فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل فحرقه بالنار، كما قاله قتادة وغيره‏.‏

وقيل‏:‏ بالمبارد، كما قاله‏:‏ علي، وابن عباس، وغيرهما‏.‏ وهو نص أهل الكتاب‏.‏ ثم ذراه في البحر، وأمر بني إسرائيل فشربوا فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد منه، ما يدل عليه، وقيل بل اصفرت ألوانهم‏.‏

ثم قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لهم‏:‏ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ وهكذا وقع‏.‏ وقد قال بعض السلف‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيمة‏.‏

ثم أخبر تعالى عن حلمه، ورحمته بخلقه، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه، بتوبته عليه فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

فيقال‏:‏ إنهم أصبحوا يوماً وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف، وألقى الله عليه ضباباً حتى لا يعرف القريب قريبه، ولا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم، فيقال‏:‏ إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ استدل بعضهم بقوله وفي نسختها على أنها تكسرت، وفي هذا الاستدلال نظر، وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت والله أعلم‏.‏

وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي‏:‏ أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر، وما هو ببعيد؛ لأنهم حين خرجوا ‏{‏قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏‏.‏

وهكذا عند أهل الكتاب‏:‏ فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس، وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل، قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف‏.‏

ثم ذهب موسى يستغفر لهم فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 336‏)‏

{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155-157‏]‏‏.‏

ذكر السدي، وابن عباس، وغيرهما‏:‏ أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل، ومعهم موسى، وهرون، ويوشع، وناداب، وابيهو، ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل، وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا‏.‏

فلما ذهبوا معه، واقتربوا من الجبل، وعليه الغمام وعمود النور ساطع، وصعد موسى الجبل، فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله، وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين، وحملوا عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وليس هذا بلازم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ مبلغاً‏.‏

وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغاً عن موسى عليه السلام، وزعموا أيضاً أن السبعين رأوا الله، وهذا غلط منهم، لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً، الخير فالخير، وقال‏:‏ انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله، فقال‏:‏ أفعل‏.‏

فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل في الغمام، وقال للقوم‏:‏ ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمر وينهاه، افعل ولا تفعل‏.‏

فلما فرغ الله من أمره، وانكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم قالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة - فالتقت أرواحهم فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا‏}‏ أي‏:‏ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 337‏)‏

وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج‏:‏ إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ‏}‏ أي‏:‏ اختبارك وابتلاؤك وامتحانك‏.‏ قاله‏:‏ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف‏.‏ يعني‏:‏ أنت الذي قدرت هذا، وخلقت ما كان من أمر العجل، اختباراً تختبرهم به كما ‏{‏قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ أختبرتم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من شئت أضللته باختبارك إياه، ومن شئت هديته لك، الحكم والمشيئة، ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت‏.‏

{‏أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك‏}‏ أي‏:‏ تبنا إليك ورجعنا وأنبنا‏.‏ قاله‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وإبراهيم التيمي، والضحاك، والسدي، وقتادة، وغير واحد، وهو كذلك في اللغة‏.‏

{‏قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ أنا أعذب من شئت، بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها‏.‏

{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض كتب كتاباً فهو موضوع عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏)‏‏)‏‏.‏

{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ فسأوحيها حتماً لمن يتصف بهذه الصفات ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، من الله لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به وأعلمه، وأطلعه عليه‏.‏ وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قال موسى‏:‏ يا رب أجد في الألواح أمة؛ خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، رب اجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏

قال‏:‏ رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏

قال‏:‏ رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها، وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظراً، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئاً ولم يعرفوه، وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئاً، لم يعطه أحداً عن الأمم‏.‏ قال‏:‏ رب اجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏

قال‏:‏ رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول، وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فصول الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏

قال‏:‏ رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجرون عليها، وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليها ناراً فأكلتها، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير، وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم، قال رب فاجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 338‏)‏

قال‏:‏ رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، إلى سبعماية ضعف‏.‏ قال‏:‏ رب اجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏

قال‏:‏ رب إني أجد في الألواح أمة هم لمشفعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي‏.‏

قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏

قال قتادة‏:‏ فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح، وقال‏:‏ اللهم اجعلني من أمة أحمد‏.‏

وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام، وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها، ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار، بعون الله وتوفيقه، وحسن هدايته ومعونته وتأييده‏.‏

قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ ذكرُ سؤال كليم الله ربه عز وجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة‏:‏ أخبرنا عمر بن سعيد الطائي بمنبج، حدثنا حامد بن يحيى البلخي، حدثنا سفيان، حدثنا مطرف بن طريف، وعبد الملك بن أبجر شيخان صالحان قالا‏:‏ سمعنا الشعبي يقول‏:‏ سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل‏:‏ أي أهل الجنة أدنى منزلة‏؟‏

فقال‏:‏ رجل يجيء بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة‏.‏

فيقال له‏:‏ ادخل الجنة‏.‏

فيقول‏:‏ كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخاذاتهم‏؟‏

فيقال له‏:‏ أترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا‏؟‏

فيقول‏:‏ نعم أي رب‏.‏

فيقال‏:‏ لك هذا ومثله ومثله‏.‏

فيقول‏:‏ أي رب رضيت‏.‏

فيقال له‏:‏ لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك‏.‏

وسأل ربه‏:‏ أي أهل الجنة أرفع منزلة‏؟‏

قال‏:‏ سأحدثك عنهم، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏)‏‏)‏‏.‏

ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل ‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏

وهكذا رواه مسلم، والترمذي، كلاهما عن ابن أبي عمر، عن سفيان - وهو ابن عيينة - به‏.‏

ولفظ مسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فيقال له‏:‏ أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا‏؟‏

فيقول‏:‏ رضيت رب‏.‏

فيقول‏:‏ لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله‏.‏

فيقول في الخامسة‏:‏ رضيت رب‏.‏

فيقال‏:‏ هذا لك، وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك‏.‏

فيقول‏:‏ رضيت رب‏.‏

قال‏:‏ رب فأعلاهم منزلة‏؟‏

قال‏:‏ أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 339‏)‏

قال‏:‏ ومصداقه من كتاب الله ‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏ وقال الترمذي حسن صحيح‏.‏

قال‏:‏ ورواه بعضهم عن الشعبي، عن المغيرة فلم يرفعه، والمرفوع أصح‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن أبا السمح حدثه، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏سأل موسى ربه عز وجل عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة، والسابعة لم يكن موسى يحبها‏:‏

قال‏:‏ يا رب أي عبادك أتقى‏؟‏

قال‏:‏ الذي يذكر ولا ينسى‏.‏

قال‏:‏ فأي عبادك أهدى‏؟‏

قال‏:‏ الذي يتبع الهدى‏.‏

قال‏:‏ فأي عبادك أحكم‏؟‏

قال‏:‏ الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه‏.‏

قال‏:‏ فأي عبادك أعلم‏؟‏

قال‏:‏ عالم لا يشبع من العلم، يجمع علم الناس إلى علمه‏.‏

قال‏:‏ فأي عبادك أعز‏؟‏

قال‏:‏ الذي إذا قدر غفر‏.‏

قال‏:‏ فأي عبادك أغنى‏؟‏

قال‏:‏ الذي يرضى بما يؤتى‏.‏

قال‏:‏ فأي عبادك أفقر‏؟‏

قال‏:‏ صاحب منقوص‏)‏‏)‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ليس الغنى عن ظهر، إنما الغنى غنى النفس‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏‏(‏وإذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه، وتقاه في قلبه، وإذا أراد بعبد شراً جعل فقره بين عينيه‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن حبان‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب منقوص‏)‏‏)‏ يريد به‏:‏ منقوص حالته، يستقل ما أوتى، ويطلب الفضل‏.‏

وقد رواه ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏، عن ابن حميد، عن يعقوب التميمي، عن هرون بن عبيرة، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ سأل موسى ربه عز وجل فذكر نحوه، وفيه‏:‏

‏(‏‏(‏قال‏:‏ أي رب فأي عبادك أعلم‏؟‏

قال‏:‏ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يجد كلمة تهديه إلى هدى، أو ترده عن ردى‏.‏

قال‏:‏ أي رب فهل في الأرض أحد أعلم مني‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ رب فمن هو‏؟‏

قال‏:‏ الخضر‏.‏ فسأل السبيل إلى لقيه‏)‏‏)‏‏.‏

فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله، وبه الثقة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 340‏)‏

 حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن موسى قال‏:‏ أي رب، عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا‏.‏

قال‏:‏ ففتح له باب من الجنة فنظر إليها‏.‏

قال يا موسى‏:‏ هذا ما أعددت له‏.‏

فقال موسى‏:‏ يا رب وعزتك وجلالك لو كان مقطع اليدين والرجلين، يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره، لم ير بؤساً قط‏.‏

قال‏:‏ ثم قال‏:‏ أي رب عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا‏.‏

قال‏:‏ ففتح له باب إلى النار فيقول‏:‏ يا موسى هذا ما أعددت له‏.‏

فقال‏:‏ أي رب وعزتك وجلالك، لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره لم يرَ خيراً قط‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وفي صحته نظر، والله أعلم‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ ذكر سؤال كليم الله ربه جل وعلا أن يعلمه شيئاً يذكره به‏:‏ حدثنا ابن سلمة، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، إن دراجاً حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

قال موسى‏:‏ يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به‏.‏

قال‏:‏ قل يا موسى‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

قال‏:‏ يا رب كل عبادك يقول هذا‏.‏

قال‏:‏ قل‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

قال‏:‏ إنما أريد شيئاً تخصني به‏.‏

قال‏:‏ يا موسى لو أن أهل السموات السبع، والأرضين السبع، في كفة ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهم لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

ويشهد لهذا الحديث حديث البطاقة، وأقرب شيء إلى معناه الحديث المروي في السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏أفضل الدعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم عند تفسير آية الكرسي‏:‏ حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدسكي، حدثني أبي، عن أبيه، حدثنا أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ أن بني إسرائيل قالوا لموسى‏:‏ هل ينام ربك‏؟‏

قال‏:‏ اتقوا الله‏.‏

فناداه ربه‏:‏ يا موسى سألوك هل ينام ربك‏؟‏ فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس، فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل نعس، فسقطت الزجاجتان فانكسرتا‏.‏

فقال‏:‏ يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك‏.‏

قال‏:‏ وأنزل الله على رسوله آية الكرسي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 241‏)‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن إبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال‏:‏

‏(‏‏(‏وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله عز وجل‏؟‏ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً، ثم أعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما‏.‏

قال‏:‏ فجعل ينام، وكادت يداه تلتقيان، فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه، فانكسرت القارورتان‏.‏

قال‏:‏ ضرب الله له مثلاً أن لو كان ينام لم يستمسك السماء والأرض‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب رفعه، والأشبه أن يكون موقوفاً‏.‏ وأن يكون أصله إسرائيلياً‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63-64‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏‏.‏

قال ابن عباس، وغير واحد من السلف‏:‏ لما جاءهم موسى بالألواح فيها التوراة، أمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم، فقالوا‏:‏ أنشرها علينا، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها، فقال‏:‏ بل اقبلوها بما فيها، فراجعوه مراراً، فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظلة - أي غمامة - على رؤوسهم‏.‏

وقيل لهم‏:‏ إن لم تقبلوها بما فيها، وإلا سقط هذا الجبل عليكم، فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود فسجدوا، فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم، فصارت سنة لليهود إلى اليوم، يقولون لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب‏.‏

وقال سنيد بن داود، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال‏:‏ فلما نشرها لم يبق على وجه الأرض جبل، ولا شجر، ولا حجر، إلا اهتز، فليس على وجه الأرض يهودي صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم، والأمر الجسيم، نكتثم عهودكم ومواثيقكم ‏{‏فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بأن تدارككم بالإرسال إليكم، وإنزال الكتب عليكم ‏{‏لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

 قصة بقرة بني إسرائيل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67-73‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 342‏)‏

قال ابن عباس، وعبيدة السلماني، وأبو العالية، ومجاهد، والسدي، وغير واحد من السلف‏:‏ كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخاً كبيراً وله بنو أخ، وكانوا يتمنون موته ليرثوه، فعمد أحدهم فقتله في الليل، وطرحه في مجمع الطرق، ويقال‏:‏ على باب رجل منهم، فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم، فقالوا‏:‏ ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله‏.‏

فجاء ابن أخيه، فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى عليه السلام، فقال موسى عليه السلام‏:‏ أنشد الله رجلاً عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به، فلم يكن عند أحد منهم علم منه، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عز وجل، فسأل ربه عز وجل في ذلك، فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً‏}‏ يعنون نحن نسألك عن أمر هذا القتيل، وأنت تقول هذا‏؟‏

{‏قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي، وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه‏.‏

قال ابن عباس، وعبيدة، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، وأبو العالية، وغير واحد‏:‏ فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم‏.‏

وقد ورد فيه حديث مرفوع، وفي إسناده ضعف، فسألوا عن صفتها، ثم عن لونها، ثم عن سنها، فأجيبوا بما عز وجوده عليهم، وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في التفسير‏.‏

والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان‏:‏ وهي الوسط بين النصف، الفارض‏:‏ وهي الكبيرة، والبكر‏:‏ وهي الصغيرة‏.‏ قاله‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وجماعة‏.‏ ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها، فأمروا بصفراء فاقع لونها أي‏:‏ مشرب بحمرة تسر الناظرين، وهذا اللون عزيز‏.‏

ثم شددوا أيضاً، ‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه‏:‏

‏(‏‏(‏لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحته نظر، والله أعلم‏.‏

{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ وهذه الصفات أضيق مما تقدم، حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول‏:‏ وهي المذللة بالحراثة، وسقى الأرض، بالسانية‏.‏ مسلمة‏:‏ وهي الصحيحة التي لا عيب فيها‏.‏ قاله‏:‏ أبو العالية، وقتادة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 343‏)‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ ليس فيها لون يخالف لونها، بل هي مسلمة من العيوب، ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها، فلما حددها بهذه الصفات، وحصرها بهذه النعوت والأوصاف ‏{‏قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان باراً بأبيه، فطلبوها منه فأبى عليهم، فأرغبوه في ثمنها حتى أعطوه فيما ذكر السدي بوزنها ذهبا، فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات، فباعها منهم، فأمرهم نبي الله موسى بذبحها ‏{‏فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ وهم يترددون في أمرها‏.‏

ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها‏.‏

قيل‏:‏ بلحم فخذها، وقيل‏:‏ بالعظم الذي يلي الغضروف‏.‏

وقيل‏:‏ بالبضعة التي بين الكتفين، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى، فقام وهو يشخب أوداجه، فسأله نبي الله من قتلك‏؟‏

قال‏:‏ قتلني ابن أخي، ثم عاد ميتاً كما كان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له، كذلك أمره في سائر الموتى إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة، كما قال‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 60-82‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 344‏)‏

 قصة موسى والخضر عليهما السلام

قال بعض أهل الكتاب‏:‏ إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل‏.‏ وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم، وينقل عن كتبهم منهم‏:‏ نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي، ويقال‏:‏ إنه دمشقي، وكانت أمه زوجة كعب الأحبار‏.‏

والصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن، ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه‏:‏ أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمر بن دينار، أخبرني سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر، ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس‏:‏ كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم‏؟‏

فقال‏:‏ أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك‏.‏

قال موسى‏:‏ يا رب وكيف لي به‏؟‏

قال‏:‏ تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق‏.‏

فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد ‏{‏قَالَ لِفَتَاهُ أتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً‏}‏ ولم يجد موسى النصب، حتى جاوز المكان الذي أمره الله به‏.‏

قال له فتاه‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ فكان للحوت سرباً، ولموسى ولفتاه عجبا‏.‏

{‏قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً‏}‏ قال‏:‏ فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى‏.‏

فقال الخضر‏:‏ وإني بأرضك السلام‏.‏

قال‏:‏ أنا موسى‏.‏

قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏

قال‏:‏ نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا‏.‏

{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، ‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً‏}‏‏.‏

قال له الخضر‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 345‏)‏

فمرت بهما سفينة فكلمهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى‏:‏ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ‏{‏لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وكانت الأولى من موسى نسياناً‏.‏

قال‏:‏ وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر‏:‏ ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏

ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وهذه أشد من الأولى، ‏{‏قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ‏}‏ قال‏:‏ مائل‏.‏

فقال الخضر بيده ‏{‏فَأَقَامَهُ‏}‏ فقال موسى‏:‏ قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ‏{‏لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً‏}‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما‏)‏‏)‏‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ فكان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏(‏وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا‏)‏، وكان يقرأ ‏(‏وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين‏)‏‏.‏

ثم رواه البخاري أيضاً، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، بإسناده نحوه‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها‏.‏

قال‏:‏ فوضع موسى رأسه فنام‏)‏‏)‏‏.‏

قال سفيان وفي حديث غير عمرو قال‏:‏ وفي أصل الصخرة عين يقال لها‏:‏ الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال فتحرك وانسل من المكتل، ودخل البحر فلما استيقظ ‏(‏‏(‏قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا‏.‏

وساق الحديث‏.‏

وقال‏:‏ ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى‏:‏ ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله، إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره، وذكر تمام الحديث‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم قال‏:‏ أخبرني يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 346‏)‏

إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال‏:‏ سلوني‏.‏

فقلت‏:‏ أي أبا عباس جعلني الله فداك بالكوفة، رجل قاص يقال له‏:‏ نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل، أما عمرو فقال لي‏:‏ قال قد كذب عدو الله‏.‏

وأما يعلى فقال لي‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ حدثني أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏موسى رسول الله، قال ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب، ولى فأدركه رجل فقال‏:‏

أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك‏؟‏

قال‏:‏ لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله‏.‏

قيل‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أي رب فأين‏؟‏

قال‏:‏ بمجمع البحرين‏.‏

قال‏:‏ أي رب، اجعل لي علماً أعلم ذلك به‏.‏

قال لي عمرو قال‏:‏ حيث يفارقك الحوت‏.‏

وقال لي يعلى‏:‏ قال‏:‏ خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل‏.‏

فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال‏:‏ ما كلفت كبيراً فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ‏}‏ يوشع بن نون، - ليست عن سعيد بن جبير - قال‏:‏ فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان، إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه‏:‏ لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر، حتى كأن أثره في حجر‏.‏

قال لي عمرو‏:‏ هكذا كان أثره في حجر، وحلق بين إبهاميه واللتين تليان

{‏لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً‏}‏ قال‏:‏ وقد قطع الله عنك النصب، ليست هذه عن سعيد أخبره، فرجعا فوجدا خضراً‏.‏ قال لي عثمان بن أبي سليمان‏:‏ على طنفسة خضراء على كبد البحر، قال سعيد‏:‏ مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال‏:‏ هل بأرض من سلام من أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا موسى‏.‏

قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏

قال‏:‏ جئتك لتعلمني مما علمت رشدا‏.‏

قال‏:‏ أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك يا موسى‏؟‏ إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال‏:‏ والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر‏.‏

{‏حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ‏}‏ وجدا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، عرفوه فقالوا‏:‏ عبد الله الصالح

قال‏:‏ فقلنا لسعيد خضر‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ لا نحمله بأجر ‏{‏خَرَقَهَا‏}‏ ووتد فيها وتداً‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ منكراً‏.‏

{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ كانت الأولى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً‏.‏

{‏قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ‏}‏ قال يعلى‏:‏ قال سعيد‏:‏ وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين‏.‏

{‏قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً‏}‏ لم تعمل بالخبث‏.‏ ابن عباس قرأها‏:‏ زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاماً زكياً

فانطلقا ‏{‏فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ‏}‏ قال‏:‏ بيده هكذا، ورفع يده فاستقام، قال يعلى‏:‏ حسبت أن سعيداً قال‏:‏ فمسحه بيده فاستقام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 347‏)‏

{‏قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ قال سعيد‏:‏ أجراً نأكله، ‏{‏وَكَانَ وَرَاءهُمْ‏}‏ وكان أمامهم‏:‏ قرأها ابن عباس‏:‏ ‏(‏أمامهم‏)‏ ملك يزعمون - عن غير سعيد - أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول يزعمون‏:‏ جيسور، ‏{‏مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً‏}‏ فإذا هي مرت به يدعها بعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها‏.‏

منهم‏:‏ من يقول سدوها بقارورة، ومنهم‏:‏ من يقول بالقار‏.‏

{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ‏}‏ وكان كافرا‏.‏ ‏{‏فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً‏}‏ أي‏:‏ يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه‏.‏ ‏{‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً‏}‏ لقوله‏:‏ أقتلت نفسا زكية، ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ هما به أرحم منها بالأول الذي قتل خضر‏.‏

وزعم سعيد بن جبير أنه‏:‏ ابن لا جارية، وأما داود بن أبي عصام فقال عن غير واحد‏:‏ إنها جارية‏.‏

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ خطب موسى بني إسرائيل فقال‏:‏ ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وهكذا رواه محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضاً‏.‏ ورواه العوفي عنه موقوفاً‏.‏

وقال الزهري عن عبيد الله، بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال‏:‏ إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئاً‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وذكر الحديث‏.‏

وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه في تفسير سورة الكهف، ولله الحمد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ قال السهيلي‏:‏ وهما أصرم وصريم، ابنا كاشح وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا‏}‏ قيل‏:‏ كان ذهباً، قاله عكرمة‏.‏

وقيل‏:‏ علماً، قاله ابن عباس‏.‏

والأشبه أنه كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه علم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 348‏)‏

قال البزار‏:‏ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحرث بن عبد الله اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني، عن بن حجيرة، عن أبي ذر رفعه، قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من الذهب مصمت‏:‏ عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب، وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا روي عن الحسن البصري، وعمر مولى عفرة، وجعفر الصادق نحو هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً‏}‏ وقد قيل‏:‏ إنه كان الأب السابع‏.‏

وقيل‏:‏ العاشر‏.‏ وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، فالله المستعان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ دليل على أنه كان نبياً، وأنه ما فعل شيئاً من تلقاء نفسه، بل بأمر ربه، فهو نبي، وقيل‏:‏ رسول، وقيل‏:‏ ولي، وأغرب من هذا من قال‏:‏ كان ملكاً، قلت‏:‏ وقد أغرب جداً من قال‏:‏ هو ابن فرعون، وقيل‏:‏ إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن أفريدون‏.‏ ويقال‏:‏ إنه كان على مقدمة ذي القرنين، الذي قيل إنه كان أفريدون، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل، وزعموا أنه شرب من ماء الحياة فخلد وهو باق إلى الآن‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل‏.‏

وقيل‏:‏ اسمه ملكان‏.‏

وقيل‏:‏ أرميا بن خلقيا‏.‏

وقيل‏:‏ كان نبياً في زمن سباسب بن لهراسب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والصحيح أنه كان في زمن أفريدون، واستمر حياً إلى أن أدركه موسى عليه السلام‏.‏

وكانت نبوة موسى في زمن منو شهر، الذي هو من ولد ايرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس، وكان إليه الملك بعد جده أفريدون، لعهده وكان عادلاً، وهو أول من خندق الخنادق، وأول من جعل في كل قرية دهقاناً، وكانت مدة ملكه قريباً من مائة وخمسين سنة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم وقد ذكر عنه من الخطب الحسان، والكليم‏:‏ البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل، ويحير السامع، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل، والله أعلم‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 84‏]‏‏.‏

فأخذ الله ميثاق كل نبي، على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء وينصره، و استلزم ذلك الإيمان و أخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به و ينصره، فلو كان الخضر حياً في زمانه لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به، والقيام بنصره، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر، كما كان تحتها جبريل، وسادات من الملائكة، وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبياً، وهو الحق، أو رسولاً كما قيل، أو ملكاً فيما ذكر وأيَّاً ما كان فجبريل رئيس الملائكة، وموسى أشرف من الخضر، ولو كان حياً لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته، فكيف إن كان الخضر ولياً كما يقوله طوائف كثيرون‏؟‏ فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 349‏)‏

ولم ينقل في حديث حسن، بل ولا ضعيف، يعتمد أنه جاء يوماً واحداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اجتمع به، وما ذكر من حديث التغرية فيه، وإن كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف، والله أعلم، وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا‏.‏